روى مسلم رحمه الله في صحيحه أن رسول الله قال: «الدين النصيحة»، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: «لله، ولكتابه، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامّتهم».
قال النووي رحمه الله: «هذا حديثٌ عظيم الشّأن، وعليه مدارُ الإسلام،
وأمّا ما قاله جماعاتٌ من العلماءِ أنّه أحدُ أرباع الإسلام – أي: أحدُ
الأحاديث الأربعة التي تجمَع أمورّ الإسلام – فليسَ كما قالوه، بل المدارُ
على هذا وحدَه».
تعريف النصيحة:
النّصيحة
هي القيامُ بحقوق المنصوح له مَع المحبّة الصادقةِ، والحقوقُ تكونُ
بالأقوال والأعمال وإراداتِ القلب، قال الأصمعي: «النّاصحُ الخالِص من
الغِلّ، وكلّ شيء خلُص فقد نصح». وقال الخطابيّ: «وأصلُ النّصح في اللّغة
الخلوص، يقال: نصحتُ العسلَ إذا خلّصته من الشّمع».
وقال
بعضُ أهلِ العلم: «جماعُ تفسير النّصيحة هو عنايَة القلبِ للمنصوح له مَن
كان، وهي على وجهين: أحدُهما فرضٌ، والآخر نافلة. فالنّصيحة المفترَضة لله
تعالى هي شدَّة العنايةِ من النّاصح باتّباع محبّةِ الله في أداءِ ما
افترَض ومجانبةِ ما حرّم. وأمّا النّصيحة التي هي نافلة فهي إيثار محبَّتِه
على محبّة نفسِه، وذلك أن يَعرِضَ أمران: أحدُهما لنفسِه والآخر لربّه،
فيبدأ بما كان لربِّه ويؤخِّر ما كانَ لنفسِه». وسيأتي تفصيل ذلك عند
الحديث على النصيحة لله سبحانه وتعالى.
أهمية النصيحة:
كلمة
النصيحة من الكلمات التي يرتاح إليها السمع، وتطمئنّ إليها النفس، وتميل
إليها المشاعر النقيّة؛ لأنها تهدف إلى الودّ والصلاح، وإلى ما ينفع الناس،
يقولون: إنك نصحت القول لفلان، أي قصدت مصلحته ومنفعته، من هنا نجد أن
النصيحة مهمّة جدًّا بين المسلمين، حيث إن رسول الله اهتم بها، وأمر بها
وكأنها ركن من أركان الإسلام، ولُبّ الإسلام، وجوهر الإسلام، ومن أوجه
أهمية النصيحة:
النصيحة من خلق الأنبياء:
النصيحة خُلُق أنبياء الله ورسُلِه، فهم أنصَح الخَلق، وأبرُّهم وأنقاهم، قال الله عن نوحٍ عليه السلام أنّه قال لقومه: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾. وقال عن هود عليه السلام: ﴿وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ﴾. وقال عن النبيّ صالح عليه السلام أنه قال لقومه: ﴿وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ﴾.
النصيحة سنة النبي صلى الله عليه و سلم:
ومحمّد أعظمُ الخلقِ نُصحًا للخلقِ، وشفقةً على أمّته، ونصحًا لهم، وخوفًا عليهم، وصدَق الله سبحانه وتعالى إذا قال: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾.
فلا
طريق يقرِّبنا إلى اللهِ إلا بيَّنه لنا وأمرَنا به وبسلوكِه، ولا طريقَ
يباعِدنا من الله إلاّ بيَّنه لنا وحذَّرنا من سلوكِه، فلقد بيَّنَ غايةَ
البيان، ونصَح غايةَ النصيحة، وترك أمّته على المحجّة البيضاء، ليلُها
كنهارها، لا يزيغ عنها بعدَه إلاّ هالك.
اشترط النبي النصيحة على من بايعه صلى الله عليه و سلم:
كان
الصحابة الكرام رضي الله عنهم يبايعون الرسول صلى الله عليه و سلم على
الصلاة والزكاة والنصيحة لكل مسلم، كما جاء ذلك في قول جرير بن عبد الله
رضي الله عنه حينما قال: «بايعت رسول الله على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم». وقال النبي صلى الله عليه و سلم فيما رواه عن ربّ العزّة جلّ وعلا: «أحب ما تعبّدني به عبدي النصح لي».
النصيحة من هدي السلف الصالح:
كان
سلفنا الصالح رضي الله عنهم يتناصحون فيما بينهم، ويقبلون النصيحة، ولو
كان الناصح دونهم في السن أو العلم أو الجاه، وحذروا من رد النصيحة، قال
ابن مسعود رضي الله عنهفي تفسير قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ﴾. هو الرجل ينصح أخاه فيقول: (عليك نفسك)، أو: (مثلك لا ينصحني).
النصيحة من حقوق الأخوة بين المسلمين:
قال صلى الله عليه و سلم: «إذا استنصح أحدكم أخاه فلينصح له». فالنصحُ بين المسلمين أفرادًا ومجتمعًا ليعدُّ أمارةً من أماراتِ الاهتمام بالصّلاح والإصلاح والمودة والمحبة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه و سلم قال: «حقُّ
المسلم على المسلم ستّ: إذا لقيتَه فسلّم عليه، وإذا دعاك فأجِبه، وإذا
استنصَحَك فانصَح له، وإذا عَطس فحمِدَ الله فشمِّته، وإذا مرِض فعُده،
وإذا ماتَ فاتبَعه».
وعن جبير بن مطعم رضي الله عنهأنّ النبيّ صلى الله عليه و سلم قال: «ثلاثٌ لا يَغلّ عليهن قلبُ امرئ مسلم: إخلاصُ العملِ لله، ومناصحةُ ولاةِ الأمر، ولزوم جماعة المسلمين». ومعنى الحديث أنّ هذِه الخلالَ الثلاث تصلِح القلوبَ وتطهّرها مِن الخيانة والغِلّ والخبائث.
النصيحة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
فبالنصيحة
يتم إحياء شّعيرة الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في واقعِ حياتِهم،
وبيانِ حجّة أهل السنّة والجماعة، فضلاً عن خطورةِ إهمال هذا الباب والوقوع
في مغبّة مجانبته، ومن ثمَّ الاتِّصاف بما حذّر منه النبيّ صلى الله عليه و
سلم بقوله: «من لا يهتمّ بأمر المسلمين فليسَ منهم».
فالنصيحة
من قوام الدين، حيث بالنصيحة يستقيم أمر العباد وبها تستضاء سبيل الرشاد،
والنصيحة كلمة جامعة يعبر بها عن إرادة الخير للمنصوح له.
النصيحة صفة الصالحين المصلحين:
وصُلحاءُ
هذه الأمّة هم المتّصفون بالنصيحة لله ولكتاب الله ولرسوله ولأئمّة
المسلمين وعامّتهم، قال أبو بكر المزنيّ رضي الله عنه: «ما فاق أبو بكر رضي
الله عنهأ صحابَ رسول الله بصوم ولا بصلاةٍ، ولكن بشيء كان في قلبِه».
قال: «الذي كان في قلبه الحبّ لله عز و جل والنصيحة في خلقه».
وقال
الفضيل بن عياض رحمه الله: «ما أدرك عندنا مَن أدرك بكثرةِ الصّلاة
والصّيام، وإنّما أدرك عندنا بسخاوةِ الأنفس وسلامةِ الصدر والنّصح للأمّة
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق