قبل السفر الطويل أوراق منثورة
مرور الأيام يكون صعبًا على بعض البشر… وأقل صعوبة على آخرين… هناك من يتقبّل حوادث الدنيا بالصبر… يكتم آلامه حتى عن أغلى أحبابه… تفضحه عيناه أحيانًا… لكنه يسارع إلى إخفاء دموعه عن الناس وخاصة عن أحبابه… ومن الناس من لا يكتم ما به من صروف الدهر… تراه يشكو للقريب والغريب… لسانه لا يصمت.. يذكر في مجالسه قسوة فلان عليه… وظلم قريبه له… يحكي عن فقره وحاجته لمن يدعمه ولو بالقليل… وبعضهم يمثل على الناس ويصور لهم ضعف حيلته… يبكي أمامهم… تنهمر دموعه المصطنعة ليجلب قلوب الناس إليه كي يساعدوه ويدعموه…
توفي أبو مصطفى تاركًا ثلاثة أبناء… كبيرهم كان في السادسة عشرة من عمره… كان يملك شيئًا قليلًا من المال… استعملته أم مصطفى للإنفاق على أبنائها… حاول ابنها الكبير ترك الدراسة ليساعد أمه في مصروف المنزل… رفضت والدته ذلك… وبعد نقاش طويل قبلت معه أن يجد عملًا بعد دوام المدرسة… وهكذا كان… جارهم ربيع يملك دكانًا قريبًا من المنزل… سأله إن كان بحاجة لمن يساعده في شؤون تجارته بعد الظهر… وكان له ما يريد… ربيع تعاطف مع مصطفى… أحبّ أن يساعد أسرته… وكان هذا بابًا للدعم ولو بطريقة غير مباشرة…
مرّت أيام طويلة… اجتهد فيها مصطفى أن لا تحتاج أمه إلى غريب… كان يعطي كامل راتبه لأمه… وهي تعطيه مصروفه اليومي… لم يؤخره العمل عن النجاح في دراسته… أنهى دراسته الثانوية… التحق بالجامعة… وبعد إنهائه دراسته الجامعية… حصل على منحة للدراسة في إحدى البلاد الأوروبية… تردد كثيرًا… لكن شجعته والدته على السفر… وقالت له إنها تملك ما يكفي لمصاريف بيتها وتعليم شقيقيه… وهو وعدها أن يجد عملًا في البلد الذي يسافر إليه وسيرسل لها كفايتها…
سافر مصطفى… وبقي عادل وأحمد… شقيقا مصطفى بقرب الوالدة… تابعا دراستهما الجامعية… وكانت الوالدة تعاني بصمت من قلة المال بين يديها… مصطفى لم يفِ بوعوده… شغلته الدراسة عن القيام بأي عمل آخر… تزوج من أجنبية… فولدت له طفلين… شغلاه عن أمه وإخوته… كانت الأم تستدين من هنا وهناك لكي تستطيع متابعة المسيرة مع أبنائها… وتخرّج ولداها… وجدا عملًا بسيطًا لكن كان كافيًا لهما… وكانت مساعدتهم لوالدتهم بسيطة جدًّا… كانت المسكينة تخشى أن تمرض لأن ما تحصل عليه من ولديها بالكاد يكفي ثمن طعامها وشرابها… لم يكن أمامها إلا أن تعمل… صارت تطبخ الطعام لجيرانها مقابل أجرة بسيطة… وكان جيرانها لا يبخلون عليها إن شكت من تقصير في مصروفها… وكانت صابرة في كل أحوالها.. لا تعاتب أولادها… وتبتسم لهم كلما رأتهم… لكنهم لم يكونوا ينتبهون لدموعها التي تخفيها عنهم حتى لا يقلقوا على وضعها…
مرّت سنوات طويلة… تزوج عادل.. ثم تبعه أحمد… واستقر كل واحد منهم في بيته مع أسرته… كانت زياراتهم للوالدة شبه نادرة… كانوا يعطونها القليل من المال وهي لا تطالب بزيادة.. مصطفى كان يتصل بها لدقائق فقط كل شهر ليطمئن عليها…
سنوات كثيرة مرّت… عاد مصطفى وأولاده إلى بلده… زوجته بقيت في بلدها ولم تقبل بمرافقة زوجها إلى بلده… وبعد مدة.. تزوج أبناؤه وانتقلوا للسكن كل واحد في منزله… وبقي مصطفى وحيدًا في بيته…
أم مصطفى صارت عجوزًا في الثمانينات… لا تزال تعيش بمفردها… أولادها صارت زياراتهم أقل من السابق… تبكي في وحدتها شوقًا لمن سهرت على تربيتهم… لا تذكرهم بسوء… بل تجد لهم عذرًا لغيابهم…
مصطفى… كان يعاتب أبناءه بسبب قلة تواصلهم معه… لكن لم يجد منهم أذنًا صاغية… وتذكر أمّه… كيف أنها تعيش الوحدة بسبب ابتعاد أبنائها عنها… عرف الآن سرّ دموع أمه التي كانت تخفيها عنهم… الآن هو يعاني مثل تلك الظروف… كذلك هو يبكي بصمت… ورغم جفاء أبنائه… كان يدعو لهم دائمًا بخير…
اتصل مصطفى بأمه… قال لها إنه سيزورها مساء… واتصل بإخوته طالبًا منهم الحضور لرؤية الغالية… كانت أمسية جميلة… اجتمع الجميع حول العجوز… أخبروها قصصًا كثيرة عن أطفالهم… وعدوها أنهم لن يبتعدوا عنها بعد ذلك اليوم… الوفاء نعمة… البعض ينعم بها… الأب والأم عندما يتقدم بهما السن يحتاجان إلى رعاية خاصة… ما أجمل أن يعرف الأبناء فضلهما ويرعوهما للّه تعالى… من تعب عليكم في صغركم… لا تتركوه حين يقترب من السفر الطويل…
هناك تعليق واحد
بارك الله فيك
إرسال تعليق